الهند: من أكبر مستعمرة إلى أكبر ديمقراطية: الإطار السياسى لتجربة التنمية والإصلاح

[د/سالي جمعة]

اكتوبر 2001
1
الهند: من أكبر مستعمرة إلى أكبر ديمقراطية: الإطار السياسى لتجربة التنمية والإصلاح الاقتصادى فى الهند
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: محمد فايز فرحات

شغلت قضية العلاقة بين الإطار السياسى وعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية اهتماما واسعا وقد تطور فى هذا الإطار اتجاهان لرئيسيان، الأول هو الذى يربط بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، معتبرا أن الديمقراطية هى الإطار الأنسب، أن لم تكن الشرط الضرورى، لانطلاق ونجاح عملية التنمية الاقتصادية بينما يرى الاتجاه الثانى أن الديمقراطية لا تعد شرطا ضروريا فى إطار هذين الاتجاهين العديد من الافتراضات بشأن العلاقة بين الإطار السياسى والنظام الحزبى، من ناحية، والإصلاح الاقتصادى من ناحية أخرى، وقد ذهبت فى هذا الإطار العديد من الدراسات إلى أن الإطار السياسى الديمقراطى هو الإطار النسب لتطبيق برامج الإصلاح الاقتصادى بالمقارنة بالنظم السياسية التسليطية، وأن الحكومات التى تستند إلى أساس حزبى متماسك وأغلبية برلمانية قوية أقدر على طرح وتطبيق برامج ناجحة وواسعة النطاق للإصلاح الاقتصادى بالمقارنة بتلك التى تفتقد إلى أساس حزبى قوى ويستند الاتجاه الذى يؤكد على أهمية الإطار الديمقراطى لنجاح التنمية الاقتصادية والإصلاح الاقتصادى إلى الخبرة الأوروبية التى ارتبطت عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها بالأطر السياسية الديمقراطى إلا أن العديد من التجارب خاصة فى دول العالم الثالث والدول تشير إلى تلك العلاقة ليست مباشرة بين الإطار السياسى والتنمية الاقتصادية أو الإصلاح الاقتصادى وتقدم الهند إحدى تلك التجارب الهامة الملامح العامة لتجربة التنمية فى الهند: اعتمدت استراتيجية التنمية فى الهند خلال الفترة من الخمسينات إلى نهاية عقد السبعينات على محورية الدور الاقتصادى للدولة فى إطار استراتيجية الإنتاج بغرض الإحلال محل الواردات، وهى الاستراتيجية التى اعتمدت عليها تجارب التنمية فى معظم الدول التنمية خلال تلك الفترة، وهدفت الهند فى إطار تلك الاستراتيجية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتى من خلال تكثيف الاستثمار العام فى قطاع الصناعة والبنية الأساسية، من خلال تطبيق سياسة حمائية شديدة لحماية المنتجات والصناعات الوطنية من المنافسة الخارجية، والتقليل من الواردات ومن الناحية السياسية فقد استندت تلك الاستراتيجية إلى فكرة تأسيس المجتمع الاشتراكى وفى هذا الإطار فقد اتسع حجم القطاع العام وسيطرت الدولة على معظم القطاعات والأنشطة الاقتصادية وأصبحت الدولة هى المستوعب الرئيسى للقوى العاملة حيث وصلت نسبة العاملين فى الدولة والقطاع العام إلى 70% من إجمالى القوى العاملة خلال تلك الفترة وقد استطاع الاقتصاد الهندى فى إطار تلك الاستراتيجية تحقيق معدل نمو بلغ حوالى 36% سنويا فى المتوسط خلال الفترة 1965 1980 وتركز النمو الاقتصادى فى قطاع الصناعة والصناعات التحويلية، حيث بلغ هذا المعدل حوالى 42%، 45% على الترتيب خلال نفس الفترة، بينما اقتصر معدل النمو فى قطاع الزراعة رغم الجهود التى بذلت فى هذا الإطار على 25% إلا أنه رغم معدلات النمو التى حققها قطاع الصناعة والصناعة التحويلية بالمقارنة بقطاع الزراعة فقد ظل الطابع الزراعى هو الغالب على هيكل الإنتاج، حيث بلغت حصة الزراعة من الناتج المحلى الإجمالى حوالى 44% فى عام 1965 مقارنة بحوالى 22% فقط لقطاع الصناعة مقابل 34% لقطاع الخدمات، كما استطاعت الهند فى إطار تلك الاستراتيجية ضبط معدل نمو الواردات عند 16% سنويا مقابل 37% للصادرات خلال الفترة 1965 1980 وقد انطوى تطبيق تلك الاستراتيجية فى إطار طبيعة المجتمع الهندى على العديد من الأهداف المتناقضة، خاصة التناقض بين هدفى الدعم لسكان المناطق الحضرية، من ناحية، من خلال العمل على توفير السلع الغذائية بأسعار منخفضة، وتقديم الدعم لسكان المناطق الريفية والمزارعين، من ناحية أخرى، من خلال توفير أسعار مرتفعة للمنتجات الزراعية وقد جاء تحقيق الهدف الأول على حساب تحقيق الثانى، الأمر الذى عكس انحياز الحكومة الهندية فى إطار تلك الاستراتيجية لسكان المناطق الحضرية على حساب المناطق الريفية وتتضح الآثار السلبية لهذا الانحياز فى ضوء ارتفاع نسبة السكان الذين يعملون بالزراعة والتى وصلت إلى 73% فى عام 1965، وارتفاع نصيب قطاع الزراعة من الناتج المحلى الإجمالى بالمقارنة بالقطاعات الأخرى وعلى الرغم من محاولة الحكومة الهندية تقديم صور أخرى للدعم لسكان المناطق الريفية إلا أنها لم تكن كافية، الأمر الذى أدى إلى اتساع الفجوة بين الريف والحضر وبالإضافة إلى الأضرار التى لحقت بالمناطق الريفية، فقد أضرت تلك الاستراتيجية بالقدرات التنافسية للصناعة الهندية والقطاع الخاص، فضلا عن تراجع نصيب الاقتصاد الهندى فى التجارة الهندية بسبب التركيز على التصنيع من أجل الإنتاج للسوق الداخلى، حيث تراجع نصيب الهند من تلك التجارة من 25% فى عام 1938 إلى 05% فقط فى أوائل الثمانينات بالإضافة إلى تراجع نصيب الهند من المساعدات الخارجية وفى ضوء المشكلات والنتائج المتواضعة التى حققتها الاقتصاد الهندى فى إطار تلك الاستراتيجية بدأت الهند فى التحول عن استراتيجية الإحلال محل الواردات والدور الاقتصادى المحورى للدولة من خلال تبنى استراتيجية معتدلة للتحرير الاقتصادى فى عام 1984، إلا أن الضغوط التى مارستها القوى الاقتصادية وجماعة المصلحة فى الهند خلال تلك الفترة حالت دون تطبيق خطوات متقدمة فى إطار المبادرة غير أن تدهور الأداء الاقتصادى الهندى خلال النصف الثانى من الثمانينات وأوائل التسعينات فرض على الحكومة الهندية تطبيق برنامج راديكالى للتحرير الاقتصادى والمالى فقد شهد عقد الثمانينات تزايد لجوء الحكومة الهندية إلى الاقتراض حيث تعددت نسبة الدين الحكومى 5% من الناتج المحلى الإجمالى وتزايد إنفاق الحكومة على الدعم إلى أن وصلت نسبته إلى 12% من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 1990، ووصل العجز فى الميزان الجارى حوالى (3%) من الناتج المحلى الإجمالى، وتراجعت قيمة الاحتياطى النقدى الدولى على نحو لم تغط معه تلك الاحتياطيات حوالى أسبوعين فقط من الواردات وقد ضاعفت من مؤشرات هذا التدهور نشوب أزمة الخليج الثانية التى أثرت على الاقتصاد الهندى وفى ضوء تلك التطورات تبنت الحكومة الهندية فى يوليو 1991 تطبيق سياسة راديكالية فى التحرير الاقتصادى ومن أهم الملامح المميزة لبرنامج الإصلاح الاقتصادى فى الهند أنه جاء كمبادرة من جانب القيادة السياسية الهندية وليس نتاجا لضغوط مارستها القوى وجماعات المصلحة الاقتصادية الداخلية فى الهند، على نحو ما تذهب إليه العديد من الافتراضات التى تؤكد عليها الدراسات الخاصة بالاقتصاد السياسى للإصلاح الاقتصادى فى الدول النامية وتنطلق معظم تلك الدراسات فى تفسير برامج الإصلاح الاقتصادى فى الدول النامية من عدد من الافتراضات يأتى فى مقدمتها ارتباط مصالح العديد من جماعات المصلحة الاقتصادية المحلية بتطبيق برامج للإصلاح الاقتصادى خاصة مع تسارع معدلات العولمة الاقتصادية، الأمر الذى يدفع بتلك الجماعات إلى ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية من أجل تطبيق برامج إصلاح اقتصادى للاستفادة من الفرص التى توفرها العولمة الاقتصادية لتلك الجماعات غير أن هذا الافتراض لا يوجد له سندا قويا فى التجربة الهندية فمن ناحية فقد ظل الاقتصاد الهندى اقتصادا مغلقا نسبيا قبل وضوح ظاهرة العولمة الاقتصادية مع بداية التسعينات مما أدى إلى عدم وجود ارتباط واضح بين مصالح جماعات المصلحة والقوى الاقتصادية الهندية والانفتاح على العالم الخارجى حيث ظلت مصالح تلك القوى مركزة بشكل رئيسى داخل السوق الهندى بل على العكس فقد ترتب على بدء الإصلاح الاقتصادى فى الهند نمو معارضة شديدة داخل تلك القوى خاصة من جانب كبار رجال الأعمال والمزارعين فضلا عن اتحادات العمال والبيروقراطية الهندية وهى الفئات التى استفادت من النظام الاقتصادى القائم على الحماية الاقتصادية التى طبقت قبل بدء عملية الإصلاح الاقتصادى وواقع الأمر أن النموذج الهندى فى الإصلاح الاقتصادى لا يقدم نموذجا متمايزا فيما يتعلق بدوافع لبدء عملية الإصلاح الاقتصادى فقط وإنما تمثل نموذجا متمايزا أيضا فيما يتعلق بالعلاقة بين الإطار السياسى ومستوى التقدم فى عملية الإصلاح الاقتصادى تمثل الهند نموذجا هاما لدراسة تلك الفرضيات فقد شهدت الهند مجموعة من الحكومات المتعاقبة خلال الفترة من 1984 1998، اختلفت فيها بينها فيما يتعلق بمدى قوة تلك الحكومات، كما اختلفت فيما بينها أيضا فيما يتعلق بمستوى التقدم الذى تم إحرازه فى عملية الإصلاح الاقتصادى، وهو ما يمكن تتبعه من خلال تطور عملية الإصلاح الاقتصادى خلال حكومات كل من راجيف غاندى (1984 1989) وحكومى نارسيمها راو (1991 1996) وحكومة الجبهة المتحدة خلال الفترة (1996 1998) هدفت عملية الإصلاح الاقتصادى فى ظل حكومة راجيف غاندى إلى تشجيع الصادرات من خلال زيادة حوافز التصدير وتخفيض الرسوم المفروضة على السلع الرأسمالية بغرض تسهيل عملية التحديث الصناعة الهندية، وتطوير النظام الضريبى لخلق المزيد من حوافز النمو الاقتصادى وتشجيع دور القطاع الخاص فى قطاع الصناعية وفى هذا الإطار، تضمنت الموازنة المالية لعام 1985/1986 وضع عدد من إجراءات الإصلاح الاقتصادى تضمنت إزالة القيود الكمية على العديد من المعدات الصناعية، وتخفيف الرسوم على السلع الرأسمالية من 105% إلى 45% فضلا عن إلغاء الرسوم على المشروعات الخاصة بالسماد والمخصبات الزراعية وتخفيض الرسوم على مشروعات الطاقة إلى 25% كما تم تدعيم حوافز الصادرات من خلال إعفاء ال50% الأولى من أرباح الصادرات من الضرائب وزيادة الدعم الموجه إلى الصادرات وتخفيض العملة المحلية (الروبية) أمام العملات الأجنبية الرئيسية وقد حاولت الحكومة أيضا تشجيع النمو الاقتصادى وتخفيض التهرب الضريبى من خلال تخفيض الضرائب على الدخل بنسبة 20 30% حيث قامت بزيادة الحد الأدنى لمستوى الدخل الخاضع للضريبة من 15000 روبية إلى 18000 روبيه كما تم إلغاء الضريبة على العقارات فضلا عن تخفيض نسبة الضرائب على الثروة، حيث تم تخفيض معدل الضرائب على الشركات من 575% إلى 525% ورفعت الحكومة الهندية من سقف الإعفاء من الضرائب على الصناعات الصغيرة من 25 مليون روبية إلى 75 مليون روبيه كما حرصت الحكومة على إصلاح نظام التصاريح الصناعية من خلال تخفيض قائمة الصناعات التى يشترط للدخول فيها الحصول على تصريح مسبق من 77 صناعة إلى 27 صناعة فقط فى عام 1988 وفى أبريل 1988 بدأت الحكومة فى إصلاح سوق المال الذى اتسع حجمه فى ضوء تلك التطورات حيث تم تأسيس مجلس سوق الأوراق المالية وفى مارس 1989 أنهت الحكومة السيطرة على أسعار الأسمنت والألومنيوم وقد شهد الاقتصاد الهندى فى ظل تلك الحكومة عددا من المؤشرات الإيجابية فقد حقق الاقتصاد الهندى معدل نمو قدره 56% سنويا خلال الفترة 1985/ 86/ 89/ 1990 كما شهدت قيمة الصادرات نموا سنويا قدره 14% وظل معدل التضخم متراوحا حول 7% سنويا إلا أنه فى الوقت نفسه فقد بلغ متوسط العجز المالى حوالى 101% من الناتج المحلى الإجمالى كما ارتفعت نسبة العجز فى ميزان الحساب الجارى من حوالى 17% من الناتج المحلى الإجمالى فى النصف الأول من الثمانينات إلى 3% فى النصف الثانى كما تضاعفت قيمة الدين الخارجى من 31 مليار دولار فى عام 1994 إلى 64 مليار فى عام 1989، وارتفع معدل خدمة الدين من 18% إلى 27% ومع انتهاء فترة راجيف غاندى بلغت قيمة الاحتياطى الخارجية مقدرة بفترة تغطية الواردات ستة أسابيع فقط الهند فى عام 1991 إلى السياسات الاقتصادية لحكومة غاندى خلال تلك الفترة وهكذا نجد أنه فى الوقت الذى اتسمت فيه عمليات الإصلاح الاقتصادى بالبطء فقد اقترن بتلك العملية تراجع فى مؤشرات الاقتصاد الهندى أما خلال فترة حكومة نارسيمها راو، فقد شهدت عملية الإصلاح الاقتصادى تقدما واضحا عكسه اتساع نطاق وعمق عملية الإصلاح الاقتصادى من خلال اتخاذ المزيد من إجراءات فتح الاقتصاد الهندى أمام الاستثمار الأجنبى وركزت حكومة راو على الإصلاحات الاقتصادية المؤسسية والمالية من خلال إصلاح سوق رأس المال والنظام التجارى وتسهيل تدفقات الاستثمار الأجنبى قصيرة الأجل على الداخل وتأسيس الهيئات الاقتصادية والتشريعات المالية التى تكفل تنظيم وتفعيل سوق رأس المال، بالإضافة إلى فتح سوق السهم فى نوفمبر 1992 أمام مساهمة مؤسسات الاستثمار الأجنبى وعلى الرغم من التقدم الذى استطاعت أن تحققه تلك الحكومة خاصة فيما يتعلق بالإصلاح المؤسسى والتشريعى إلا أنها حققت تقدما محدودا فيما يتعلق بتخفيض العجز المالى أو خصخصة القطاع العام وقد أدت ظروف عدم الاستقرار الحكومى خلال الفترة من منتصف عام 1996 إلى عام 1999 (والتى شهدت أربعة حكومات متتالية وانتخابين برلمانيين فازت فيها المعارضة) إلى تراجع معدل النمو الاقتصادى من 7% خلال الفترة 1992 1997 إلى 550 خلال الفترة 1997 1999، إلا أنه رغم اختلاف تلك الحكومات فيما بينها من حيث التركيب الحزبى فقد جمع بينها مواصلة السياسة الاقتصادية الهندية خاصة وفيما يتعلق بعملية الإصلاح الاقتصادى والتوجه إلى الخارج والاندماج فى الاقتصاد العالمى وعلى الرغم من أنه كان من المتوقع أن تنقلب الحكومة الائتلافية التى تشكلت فى مارس 1998 بقيادة حزب بهارتيا جاناتا عن تلك السياسة فى ضوء معارضة الحزب لتلك السياسة أثناء وجوده فى المعارضة، فضلا عن أن الحزب يضم إحدى الجماعات الأشد معارضة لتحرير التجارة الخارجية والاستثمار وتدعو إلى التمسك بسياسة الحماية للصناعات المحلية وقد دعم من تلك المخاوف أن هذه الحكومة قد اتجهت فى أول موازنة لها قدمت فى يونيو 1998 إلى زيادة الرسوم الجمركية المفروضة على جميع الواردات بنسبة 5% إلا أنه فى ضوء الآثار الاقتصادية التى تركها هذا الإجراء على الاقتصاد الهندى فقد اتجهت تلك الحكومة فى العام التالى مباشرة إلى اتخاذ بعض الخطوات الهامة على طريق تحرير الاقتصاد الهندى كان أهمها تشجيع الاستثمار فى البنية الأساسية، وترشيد الضرائب المباشرة وغير المباشرة وإصدار قانون تسجيل براءات الاختراع فى مارس 1999 لوضع الهند على طريق تطبيق التزاماتها فى إطار منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بحماية حق الاختراع، وهو مشروع القانون الذى صاغته حكومة حزب المؤتمر فى عام 1995 ولكنها لم تستطع تمريره فى البرلمان بسبب معارضة حزب بهارتيا جاناتا ذاته كما كان من المقرر أن تتخذ تلك الحكومة خطوة أكثر تقدما نحو تحرير سوق التأمين من خلال استصدار قانون يسمح بفتح قطاع التأمين أمام شركات التأمين الأجنبية لولا سقوط تلك الحكومة فى أبريل 1999 والتساؤل الذى يمكن أثارته هنا فيما يتعلق بتأثير الإطار السياسى على عملية الإصلاح الاقتصادى، ما هو تأثير طبيعة النظام الحزبى والتفاعلات الحزبية على مدى قدرة الحكومات الهندية المتعاقبة على اتخاذ إجراءات واسعة النطاق فى عملية الإصلاح الاقتصادى؟ وتأتى أهمية النظام الحزبى فى ضوء الدور الهام والمؤثر الذى يلعبه النظام الحزبى الهندى فى الاستقرار الحكومى، من ناحية والمساحة الهامة التى احتلتها قضية الإصلاح الاقتصادى فى التنافس الحزبى، من ناحية أخرى بالاستناد إلى الخلفية الحزبية، كانت حكومة راجيف غاندى من أقوى الحكومات الهندية، فقد استندت تلك الحكومة إلى أغلبية برلمانية لحزب المؤتمر فى مجلس الشعب الهندى بنسبة 77 % من إجمالى مقاعد البرلمان (415 مقعدا من إجمالى 541) وهى من أعلى نسب الأغلبية البرلمانية فى تاريخ النظام السياسى الهندى منذ الاستقلال وفى المقابل مثلت حكومة ناراسيمها راو خلال الفترة (1991 1996) واحدة من أضعف الحكومات الهندية بالنظر إلى مستوى التمثيل البرلمانى الذى استندت إليه (226 مقعدا فقط من إجمالى 507 مقاعد أى بنسبة 44% فقط) وقد أدى تصاعد القومية الهندوسية خلال تلك الفترة إلى حدوث استقطاب حزبى إلى مستوى غير مسبوق فى النظام السياسى الهندى أدى إلى تصعيد الدور السياسى لحزب بهارتيا جاناتا الذى استطاع من خلال توظيف تلك التطورات الوصول إلى مستوى الحزب الثانى فى البرلمان بعد حزب المؤتمر وقد مثلت حكومة ناراسيمها راو امتداد لفترة من عدم الاستقرار السياسى والحكومى فى الهند كما أدت الظروف الصحية ل راو إلى المزيد من إضعاف حكومته، الأمر الذى أدى إلى اعتبارها حكومة انتقالية، خاصة من جانب قادة حزب المؤتمر وقد زادت تلك المشاكل وضوحا خلال فترة حكومة الجبهة المتحدة خلال الفترة (1996 1998) التى وصلت فى إطار مرحلة من تزايد التفتت فى النظام الحزبى، حيث تم تشكيل تلك الحكومة نتيجة ائتلاف ثلاثة عشر حزبا يسيطرون على 179 مقعدا من إجمالى مقاعد مجلس الشعب الهندى وفى إطار تلك الظروف فقد كان من المتوقع وفقا للافتراضات الرئيسية فى هذا الإطار أن تشهد عملية الإصلاح الاقتصادى فى الهند تقدما ورواجا واضحا فى ظل حكومة راجيف غاندى بالمقارنة بحكومتى ناراسيما راو أو حكومة الجبهة المتحدة، إلا أن التقدم الذى شهدته عملية الإصلاح الاقتصادى فى ظل الحكومتين الخيرتين قد فاق ما تم تحقيقه فى ظل حكومة راجيف غاندى الأمر الذى لا ينطبق وتلك الافتراضات ويشير إلى وجود عوامل أخرى تلعب دورا هاما كوسيط بين الإطار الحزبى وعملية الإصلاح الاقتصادى وتتمثل خاصة فى طبيعة التفاعلات الحزبية وتأثير عملية الإصلاح الاقتصادى على القوى الاقتصادية فى المجتمع تأثير تفاعلات النظام الحزبى الهندى على عملية الإصلاح الاقتصادى: رغم استناد حكومة راجيف غاندى إلى أغلبية برلمانية فى مجلس الشعب الهندى جعلتها من أقوى الحكومات فى تاريخ النظام السياسى الهندى، إلا أن طرح الحكومة لبرنامج الإصلاح الاقتصادى أدى إلى حدوث خلافات حزبية شديدة داخل حزب المؤتمر بشأن جدوى هذا البرنامج ومدى تأثيره على الثوابت والتقاليد الرئيسية للحزب والتى ضمنت له السيطرة على الحكم منذ الاستقلال باستثناء سنوات محدودة غير أن أهم المخاوف التى أثارتها سياسة الإصلاح الاقتصادى هى تأثير تلك السياسة على القواعد الاجتماعية للحزب فى المناطق الريفية فعلى الرغم من إعفاء الدخل الزراعى من الضرائب إلا أن الفلاحين لم يستفيدوا بشكل محدد من تخفيض الضرائب على الدخل بل على العكس فقد عانى الفلاحون من الضرائب غير المباشرة التى أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية كما أدت الامتيازات التى منحت لطبقة رجال الأعمال والطبقة الوسطى إلى خلق انطباع بانحياز الحزب إلى الطبقات والفئات الغنية فى المجتمع الهندى على حساب الفقراء والمناطق الزراعية والريفية ولم تقتصر معارضة تلك السياسة على المناطق الريفية ولكنها امتدت أيضا لتشمل كبار رجال الأعمال، وكبار المزارعين، والبيروقراطية بالإضافة إلى الاتحادات العمالية المنظومة، وهى القوى الرئيسية التى استفادت من النظام الاقتصادى القائم على الحماية الاقتصادية فقد كان من شأن عملية الإصلاح الاقتصادى إزالة الحماية الاقتصادية على الصناعة الوطنية، ودخول الاستثمارات الأجنبية وتعرض الصناعات الوطنية للمنافسة الأجنبية الأمر الذى يلحق الضرر بالمستثمرين الوطنيين خاصة فى ضوء ضعف القدرات التنافسية لهؤلاء المنتجين بسبب تمتعهم بالحماية لفترة زمنية طويلة، فضلا عن إلغاء الدعم على المنتجات والمستلزمات الزراعية، وتراجع نفوذ البيروقراطية، وارتفاع نسبة البطالة، وفى إطار معارضة تلك القوى تصاعدت المعارضة داخل حزب المؤتمر ذاته لسياسات الإصلاح الاقتصادى، واعتبر قادة الحزب تلك السياسة بمثابة تراجع عن الثوابت التقليدية للحزب خاصة فيما يتعلق بمبادئ الاشتراكية والقضاء على الفقر وقد تصاعدت حدة المعارضة داخل الحزب مع إعلان حكومة راجيف غاندى تخفيض الدعم الموجه إلى منتجات الأسمدة والأغذية والبترول وهى السياسات التى أدت إلى اضطرابات شعبية فى عدد من المدن الهندية ووصلت المعارضة إلى أقصاها فى عام 1987 عندما أدت تلك السياسات إلى خسارة حزب المؤتمر الانتخابات التشريعية المحلية فى بعض الولايات الهندية وهكذا فقد وضعت الخلافات داخل الحزب الحاكم والتى كادت أن تؤدى إلى انشقاق الحزب قيودا شديدة على قدرة حكومته على تطبيق برنامج واسع النطاق الإصلاح الاقتصادى، وذلك على الرغم من قوة تلك الحكومة بالنظر إلى استنادها إلى أغلبية برلمانية قوية وعلى الرغم من أن حكومة راو قد استندت إلى أقلية برلمانية من حزب المؤتمر أيضا إلا أنها استطاعت دفع سياسات الإصلاح الاقتصادى بالمقارنة بحكومة راجيف غاندى وواقع الأمر أنه كان هناك عدد من العوامل أعطت تلك الحكومة القوة فى تطبيق تلك السياسات رغم استنادها إلى أقلية برلمانية يأتى فى مقدمة تلك العوامل حرص قادة الحزب داخل البرلمان وخارجه على التماسك خوفا من سقوط حكومته فقد كان من شأن انقسام الحزب فى هذه الحالة سقوط الحكومة على عكس الحال فى حكومة راجيف غاندى التى استندت إلى أغلبية برلمانية قوية، ومن ثم كانت هناك فرصة أوسع للاختلاف دون أن يؤثر ذلك تأثيرا شديدا على استقرار الحكومة ويتعلق العامل الثانى بحدوث تحول هام فى الخلفية الجغرافية والإقليمية للمجموعة البرلمانية لحزب المؤتمر بالمقارنة بحكومة راجيف غاندى فمن الناحية التاريخية شكلت ولايات شمال الهند المصدر الرئيسى لدعم وتأييد حزب المؤتمر، إلا أن انتخابات عام 1989 شهدت تحولا هاما فى مصدر هذا الدعم، إذ فقد حزب المؤتمر الكثير من شعبيته فى تلك الولايات بينما شكلت ولايات الجنوب مصدرا هاما لهذا الدعم، وانعكس هذا التحول فى التحول عامى 1989، 1991 وتجسدت أهم مؤشراته فى صعود ناراسيمها راو ذاته الذى ينتمى إلى إحدى ولايات الجنوب الهندى وقد تمثلت أهمية هذا التحول فى توفير دعم قوى لحكومة راو دفع سياسات الإصلاح الاقتصادى بالنظر إلى أهمية الجنوب الهندى، مع تراجع فى نفس الوقت فى أهمية ولايات الشمال داخل البرلمان الهندى مما أدى إلى تحجيم معارضة الشمال لهذه السياسات ومن ناحية ثالثة، كان للتفاعلات بين الأحزاب السياسية دورا هاما أيضا فى اختلاف مستوى التقدم الذى أحرزته الحكومات الهندية فى سياسات الإصلاح الاقتصادى فقد شهد النظام الحزبى فى الهند تحولا من نظام حزبى متماسك يشكل فيه حزب المؤتمر الحزب الأكبر حتى حكومة راجيف غاندى، إلى نظام حزبى يتسم بقدر كبير من الانقسام والتفتت وقد أدت تلك الظاهرة إلى تسهيل عملية الإصلاح الاقتصادى، خاصة فى ظروف الأزمة الاقتصادية التى تعرض لها الاقتصاد الهندى فى عام 1991، فقد حرص كافة أحزاب المعارضة على ألا يكون أى منهم هو سبب انهيار الحكومة القائمة فى وقت كان هناك نوع الاتفاق العام على إعطاء الحكومة القائمة الوقت الكافى لمواجهة الأزمة الاقتصادية الأهم من ذلك أن ظروف التشرذم والانقسامات الحزبية خلال تلك الفترة قد دفعت بالأحزاب السياسية إلى العمل على تجنب إجراء انتخابات جديدة بالنظر إلى ما تتطلبه إجراء الانتخابات البرلمانية فى النظام السياسى الهندى من تكلفة مالية وجهد تنظيمى ودعائى كبير من الأحزاب السياسية وبمعنى آخر كان هناك نوع من الاتفاق الضمنى بين الأحزاب على عدم ملائمة الظروف الراهنة فى تلك المرحلة لإجراء انتخابات جديدة وتفضيل تأجيلها لحين إعادة بناء التماسك الحزبى ساهمت تلك العوامل فى حرص المعارضة على عدم تعطيل عملية الإصلاح الاقتصادى من خلال البرلمان وعلى الرغم من أن حزب المؤتمر لم يشكل حزب الأغلبية فى البرلمان الهندى فى ظل حكومة راو، إلا أن الحزب ظل معبرا عن الأيديولوجية الرئيسية فى الحياة السياسية الهندية واستطاع راو أن يحصل على تأييد القوى الحزبية لبرنامجه الإصلاحى من خلال اعتماده على استراتيجية الحوار والتشاور المستمر مع قادة أحزاب المعارضة بشأن هذا البرنامج خاصة أحزاب وقوى اليسار، وبجانب الحوار مع قادة اليسار، فقد عمل راو على فتح حوار مع حزب بهارتيا جاناتا انتهى بقيام تحالف بين الحزبين فى عام 1992 أدى إلى حدوث تقارب شديد بين الحزبين بشأن سياسات الإصلاح الاقتصادى وواقع الأمر أن أحد العوامل التى أدت إلى التقارب بين الحزبيين هو انتهاء سيطرة عائلة نهرو غاندى على حزب المؤتمر فضلا عن رغبة حزب بهارتيا جاناتا الاندماج فى الحياة السياسية من خلال التقارب مع حزب المؤتمر وقد قوى من هذا التقارب تصاعد قضية القومية الهندوسية فى ذلك الوقت الأمر الذى أدى إلى حدوث استقطاب واضح داخل النظام الحزبى بشأن تلك القضية، إذ وجد حزب بهارتيا جاناتا فى القومية الهندوسية المعتدلة لدى حزب المؤتمر أساسا يمكن من خلاله التعاون مع الحزب، كما شكلت تقاليد نهرو أساسا لتعاون اليسار مع الحزب أيضا، بينما ازدادت فى الوقت نفسه الهوة على خلفية تلك القضية بين حزب بهارتيا جاناتا وقوى اليسار وهكذا بينما أدى تصاعد قضية القومية الهندوسية إلى زيادة مساحة الاتفاق بين حزب المؤتمر وأحزاب المعارضة فقد أدت فى الوقت ذاته، إلى توسيع نطاق الخلاف بين أحزاب المعارضة الرئيسية ممثلة فى حزب بهاريتا جاناتا وقوى اليسار العلمانية وهكذا تشير خبرة الإصلاح الاقتصادى فى الهند إلى أن تلك التجربة لم تكن نتاجا لظروف العولمة الاقتصادية وضغط جماعات المصلحة الاقتصادية الهندية، بقدر ما كانت نتاجا لمبادرات داخلية من جانب القيادات السياسية فى الهند، وأن العامل الأهم فى دفع عملية التنمية الاقتصادية والإصلاح الاقتصادى لا يمكن فى مدى وجود نظام ديمقراطى أو تعددية حزبية من عدمه بقدر ما يعتمد أيضا على نمط التفاعلات الحزبية والسياسية، وأن نمط الحسابات السياسية للقوى السياسية يمثل العامل الأهم فى تأثير الإطار السياسى على نجاح عملية الإصلاح الاقتصاد.

[نورهان ميتك]

مشكووووووووووووووووووور